فصل: قال صاحب المنار في الآيتين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقيل: إنه تعالى يوصف بالسلام بمعنى ذي السلام أي لا يقدر على تخليص العاجزين من المكاره والآفات إلا هو.
وقيل: دار السلام اسم للجنة وهو جمع سلامة.
والمعنى: أن من دخلها فقد سلم من جميع الآفات، كالموت والمرض والمصائب والحزن والغم والتعب والنكد.
وقيل: سميت الجنة دار السلام لأن الله سبحانه وتعالى يسلم على أهلها أو تسلم الملائكة عليهم.
قيل: إن من كمال رحمة الله وجوده وكرمه على عباده، أن دعاهم إلى جنته التي هي دار السلام.
وفيه دليل على أن فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، لأن العظيم لا يدعو إلا إلى عظيم ولا يصف إلا عظيمًا، وقد وصف الله سبحانه وتعالى الجنة في آيات كثيرة من كتابه: {ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم} يعني: والله يهدي من يشاء من خلقه إلى صراطه المستقيم وهو دين الإسلام عم بالدعوة أولًا إظهارًا للحجة وخص بالدعوة ثانيًا استغناء عن الخلق وإظهارًا للقدرة فحصلت المغايرة بين الدعوتين.
(خ) عن جابر قال: «جاءت ملائكة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو نائم فقال بعضهم: إنه نائم وقال بعضهم: العين نائمة والقلب يقظان فقالوا: إن لصاحبكم مثلًا فاضربوا له مثلًا فقالوا مثله كمثل رجل بنى دارًا وجعل فيها مأدبة وبعث داعيًا فمن أجاب الداعي دخل الدار وأكل من المأدبة ومن لم يجب الداعي لم يدخل الدار ولم يأكل من المأدبة فقالوا أولوها يفقهها فإن العين نائمة والقلب يقظان فقال بعضهم الدار الجنة والداعي محمد فمن أطاع محمدًا فقد أطاع الله ومن عصى محمدًا فقد عصى الله ومحمد فرق بين الناس» وفي رواية: «خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إني رأيت في المنام كأن جبريل عليه السلام عند رأسي وميكائيل عند رجلي يقول أحدهما لصاحبه اضرب له مثلًا».
وعن النواس بن سمعان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله ضرب مثلًا صراطًا مستقيمًا على كتفي الصراط داران لهما أبواب مفتحة على الأبواب ستور وداع يدعو على رأس الصراط وداع يدعو فوقه والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم والأبواب التي على كتفي الصراط حدود الله فلا يقع أحد في حدود الله حتى يكشف الستر والذي يدعو من فوقه واعظ ربه» أخرجه الترمذي وقال حديث حسن غريب. اهـ.

.قال أبو حيان:

{وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ}
لما ذكر مثل الحياة الدنيا وما يؤول إليه من الفناء والاضمحلال، وما تضمنه من الآفات والعاهات، ذكر تعالى أنه داع إلى دار السلامة والصحة والأمن، وهي الجنة، إذ أهلها سالمون من كل مكروه.
ويجوز أن يكون تعالى أضافها إلى اسمه الشريف على سبيل التعظيم لها والتشريف كما قيل: بيت الله، وناقة الله، ويجوز أن تكون مضافة إلى السلامة بمعنى التسليم لفشوّ ذلك بينهم، ولتسليم الملائكة عليهم كما قال: {لا يسمعون فيها لغوًا ولا تأثيمًا إلا قيلًا سلامًا سلامًا} قال الحسن: إن السلام لا ينقطع عن أهل الجنة وهو تحيتهم كما قال تعالى: {تحيتهم فيها سلامًا} وقد وردت في دعوة الله عباده أحاديث.
وقال قتادة: ذكر لنا أنّ في التوراة مكتوبًا يا باغي الخير هلم، ويا باغي الشرّ انته.
ولما كان الدعاء عامًّا لم تتقيد بالمشيئة، ولما كانت الهداية خاصة تقيدت بالمشيئة فقال: ويهدي من يشاء.
وقال الزمخشري: ويهدي يوفق من يشاء، وهم الذين علم أنّ اللطف يجدي عليهم، لأن مشيئته تابعة لحكمته. اهـ.

.قال أبو السعود:

{والله يَدْعُو إلى دَارِ السلام} ترغيبٌ للناس في الحياة الأخرويةِ الباقيةِ إثرَ ترغيبهم عن الحياة الدنيوية الفانية أي يدعو الناسَ جميعًا إلى دار السلامةِ عن كل مكروهٍ وآفةٍ وهي الجنةُ، وإنما ذُكرت بهذا الاسم لذكر الدنيا بما يقابله من كونها معَرْضًا للآفات أو إلى دار الله تعالى وتخصيصُ الإضافةِ التشريفية بهذا الاسم الكريمِ للتنبيه على ذلك أو إلى دار يسلّم الله أو الملائكةُ فيها على من يدخلها أو يسلم بعضُهم علي بعض {وَيَهْدِى مَن يَشَاء} هدايتَه منهم {إلى صراط مُّسْتَقِيمٍ} موصلٍ إليها وهو الإسلامُ والتزودُ بالتقوى، وفي تعميم الدعوة وتخصيصِ الهدايةِ بالمشيئة دليلٌ على أن الأمرَ غيرُ الإرادة وإن من أصر على الضلالة لم يُرِد الله رشده. اهـ.

.قال الألوسي:

{وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ} ترغيب للناس في الحياة الأخروية الباقية إثر ترغيبهم عن الحياة الدنيوية الفانية أي يدعو الناس جميعًا إلى الجنة حيث يأمرهم بما يفضي إليها، وسميت الجنة بذلك لسلامة أهلها عن كل ألم وآفة أو لأن الله تعالى يسلم عليهم أو لأن خزنتها يقولون لهم سلام عليكم طبتم أو لأن بعضهم يسلم فيها على بعض.
فالسلام إما بمعنى السلامة أو بمعنى التسليم، أو لأن السلام من أسمائه تعالى ومعناه هو الذي منه وبه السلامة أو ذو السلامة عن جميع النقائص فأضيفت إليه سبحانه للتشريف كما في بيت الله تعالى للكعبة ولأنه لا ملك لغيره جل شأنه فيها ظاهرًا وباطنًا وللتنبيه على أن من فيها سالم عما مر للنظر إلى معنى السلامة في أصله، ويدل على قصده تخصيصه بالإضافة إليه دون غيره من أسمائه تعالى: {وَيَهْدِى مَن يَشَاء} هدايته {إلى صراط مُّسْتَقِيمٍ} موصل إلى تلك الدار وهو الدين الحق، وفي الآية دلالة على أن الهداية غير الدعوة إلى ذلك وعلى أن الأمر مغاير للإرادة حيث عمم سبحانه الدعوة إذ حذف مفعولها وخص الهداية بالمشيئة المساوية للإرادة على المشهور إذ قيدها بها وهو الذي ذهب إليه الجماعة، وقال المعتزلة: إن المراد بالهداية التوفيق والإلطاف ومغايرة الدعوة والأمر لذلك ظاهرة فإن الكافر مأمور وليس بموفق وأن من يشاء هو من علم سبحانه أن اللطف ينفع فيه لأن مشيئته تعالى شأنه تابعة للحكمة فمن علم أنه لا ينفع فيه اللطف لم يوفقه ولم يلطف به إذ التوفيق لمن علم الله تعالى أنه لا ينفعه عبث والحكمة منافية للعبث فهو جل وعلا يهدي من ينفعه اللطف وإن أراد اهتداء الكل. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ} الجملة معطوفة على جملة {كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون} [يونس: 24]، أي نفصل الآيات التي منها آية حالة الدنيا وتقضيها، وندعو إلى دار السلام دارِ الخلد.
ولما كانت جملة {كذلك نفصل الآيات} [يونس: 24] تذييلًا وكان شأن التذييل أن يكون كاملًا جامعًا مستقلًا جعلت الجملة المعطوفة عليها مثلها في الاستقلال فعُدل فيها عن الإضمار إلى الإظهار إذْ وضع قوله: {والله يدعو} موضع ندعو لأن الإضمار في الجملة يجعلها محتاجة إلى الجملة التي فيها المعاد.
وحُذف مفعول {يدعو} لقصد التعميم، أي يدعو كل أحد.
والدعوة هي: الطلب والتحريض.
وهي هنا أوامر التكليف ونواهيه.
ودار السلام: الجنة، قال تعالى: {لهم دار السلام عند ربهم}، وقد تقدم وجه تسميتها بذلك في سورة [الأنعام: 127].
والهداية: الدلالة على المقصود النافع، والمراد بها هنا خَلْق الاهتداء إلى المقصود بقرينة قوله: {مَن يشاء} بعد قوله: {والله يدعُو} المفيد التعميمَ فإن الدعوة إلى الجنة دلالة عليها فهي هداية بالمعنى الأصلي فتعين أنَّ {يهدي} هنا معناه إيجاد الهداية بمعنى آخر، وهي حصول الاهتداء بالفعل، أي خلق حصوله بأمر التكوين، كقوله: {فريقًا هدَى وفريقًا حق عليهم الضلالة} [الأعراف: 30] وهذا التكوين يقع إما في كل جزئية من جزئيات الاهتداء على طريقة الأشاعرة، وإما بخلق الاستعداد له بحيث يقدر على الاهتداء عند حصول الأدلة على طريقة المعتزلة وهما متقاربان في الحال، وشؤون الغيب خَفية.
وقد تقدم شيء من ذلك عند قوله تعالى: {اهدنا الصراط المستقيم} [الفاتحة: 6].
والصراط المستقيم: الطريق الموصل. اهـ.

.قال الشعراوي:

{وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ}
ودار السلام: هي الآخرة التي تختلف عن دار الدنيا المليئة بالمتاعب، هذه الدنيا التي تزهو وتتزخرف، وتنتهي إلى حطيم؛ لذلك يدعو الله تعالى إلى دار أخرى، هي دار السلام؛ لأن من المنغِّصات على أهل الدنيا، أن الواحد منهم قد يأخذ حظه جاهًا، ومالًا، وصحة، وعافية، ولكن في ظل أرق من أمرين: الأول هو الخوف من أن يفوته هذا النعيم وهو حي، والثاني أن يفوت هو النعيم.
أما الآخرة فالإنسان يحيا فيها في نعيم مقيم؛ ولذلك يقول الله سبحانه: {والله يدعوا إلى دَارِ السلام}.
وهذه الآخرة لن يشاغب فيها أحدٌ الآخر، ولن تجد من يأكل عرق غيره مثلما يحدث في الدنيا، وإذا كنا نعيش في الدنيا بأسباب الله، فنحن في الآخرة نعيش بالله سبحانه وتعالى، فكل ما يخطر على بالك تجده.
فإذا كانت الأسباب تتنوع في الدنيا وتختلف قدرات الناس فيها مع أخذهم بالأسباب، فإنهم في الآخرة يعيشون مع عطاء الله سبحانه دون جهد أو أسباب؛ لأن دار السلام هي دار الله تعالى، فالله تعالى هو السلام.
ولله المثل الأعلى، فأنت إذا دعاك ولي أمرك إلى داره، فهو يُعدّ لدعوتك على قدره هو، وبما يناسب مقامه، فما بالك حين يدعوك خالقك سبحانه وقد اتبعت منهجه. إنه سبحانه هو القائل: {إِنَّ أَصْحَابَ الجنة اليوم فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلاَلٍ عَلَى الأرائك مُتَّكِئُونَ لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَّا يَدَّعُونَ سَلاَمٌ قَوْلًا مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ} [يس: 5558].
وهذا السلام ليس من البشر؛ لأن من البشر من يعطيك السلام وهو يُكِنُّ لك غير السلام، أو قد يعطيك السلام وهو يريد بك السلام، ولكنه من الأغيار؛ فيتغير فلا يقدر أن يعطيك هذا السلام، لكن إذا ما جاء السلام من الله تعالى، فهو سلام من رب لا يعجزه شيء، ولا يُعوزه شيء، ولا تلحقه أغيار؛ لذلك يقول سبحانه: {وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ سَلاَمٌ عَلَيْكُم} [الرعد: 2324].
والملائكة حين يقولون ذلك إنما أخذوا سلامهم من باطن سلام الله تعالى، وحتى أصحاب الأعراف الذين لم يدخلوا الجنة، ويرون أهل الجنة وأهل النار، هؤلاء يلقون السلام على أهل الجنة. وهكذا يحيا أهل الجنة في سلام شامل ومحيط ومطمئن؛ لأن الداعي هو الله سبحانه، ولا أحد يجبره على أن ينقض سلامه.
ودعوة الله سبحانه هي منهجه الذي أرسل به الرسل؛ ليحكم به حركة الحياة حركة إيمانية، يتعايش فيها الناس تعايشًا على وَفْق منهج الله تعالى، بما يجعل هذه الدنيا مثل الجنة، ولكن الذي يرهق الناس في الدنيا أن بعض الناس يعطلون جزئية أو جزئيات من منهج الله سبحانه.
وأنت إذا رأيت مجتمعًا فيه لون من الشقاء في أي جهة؛ فاعلمْ أن جزءًا من منهج الله تعالى قد عُطِّل.
ولو أن الناس قد ساروا على منهج الله سبحانه وتعالى؛ لما كان بالوجود عورة واحدة؛ فالذي يُظهر عورات الوجود غفلة بعض الناس عن منهج الله سبحانه.
وأنت إنْ رأيت فقراء لا يجدون ما يأكلونه؛ فاعلمْ أن هناك مَنْ عطَّل منهج الله تعالى، إما من الفقراء أنفسهم، الذين استمرأ بعضهم الكسل، وإما أن الأغنياء قد ضنوا برعاية حق الله تعالى في هؤلاء الفقراء؛ وبذلك يتعطل منهج الله سبحانه.
أما إذا سيطر منهج الله تعالى على الحياة؛ لصارت الحياة مثل الجنة.
ويقول الحق سبحانه: {وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} ونعلم أن الهداية نوعان: هداية الدلالة بالمنهج، فمن أخذ المنهج سهَّل الله تعالى له طريق الصراط المستقيم؛ وبذلك انتقل العبد من مرحلة الهداية بالدلالة إلى الهداية بالمعونة، وحين تقوم القيامة يهديهم الله سبحانه بالنور إلى الجنة: {يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ} [يونس: 9].
إذن: فمن أخذ هداية الله بالدلالة وهي المنهج، واتبع هذا المنهج؛ فالحق سبحانه يجعل له نورًا يسعى بين يديه: {نُورُهُمْ يسعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ} [التحريم: 8].
والحق سبحانه يقول: {وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ} [يونس: 25].
لأن كل شيء في هذا الكون لا يخرج عن مشيئته سبحانه، فالقوانين لا تحكمه، بل هو الذي يحكم كل شيء.
وإذا كان الله قد بيّن من شاء هدايته، فهو أيضًا قد بيّن لنا من شاء إضلاله بقوله سبحانه: {والله لاَ يَهْدِي القوم الكافرين} [التوبة: 37].
وقوله سبحانه: {والله لاَ يَهْدِي القوم الفاسقين} [التوبة: 24].
إذن: فقد بيّن الحق سبحانه لنا من الذين يهديهم إلى الجنة ومن الذين لا يهديهم، فلا يقولن أحد: وما ذنب الكافرين والفاسقين؟ لأن الحق سبحانه قد بين منهجه، فمن أخذ به؛ جعل له نورًا يسعى بين يديه، ويدخله الجنة. اهـ.

.قال صاحب المنار في الآيتين:

{إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ}.
لَمَّا كَانَ سَبَبُ مَا ذُكِرَ مِنَ الْبَغْيِ فِي الْأَرْضِ وَإِفْسَادِ الْعُمْرَانِ، هُوَ الْإِفْرَاطُ فِي حُبِّ التَّمَتُّعِ بِمَا فِي الدُّنْيَا مِنَ الزِّينَةِ وَاللَّذَّاتِ، ضَرَبَ لَهَا مَثَلًا بَلِيغًا يَصْرِفُ الْعَاقِلَ عَنِ الْغُرُورِ بِهَا، وَيَهْدِيهِ إِلَى الْقَصْدِ وَالِاعْتِدَالِ فِيهَا، وَاجْتِنَابِ التَّوَسُّلِ إِلَيْهَا بِالْبَغْيِ وَالظُّلْمِ، وَحُبِّ الْعُلُوِّ وَالْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ، وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ تَشْبِيهِ زِينَتِهَا وَنَعِيمِهَا فِي افْتِتَانِ النَّاسِ بِهِمَا وَسُرْعَةِ زَوَالِهِمَا بَعْدَ تَمَكُّنِهِمْ مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا، بِحَالِ الْأَرْضِ يَسُوقُ اللهُ إِلَيْهَا الْمَطَرَ فَتُنْبِتُ أَنْوَاعَ النَّبَاتِ الَّذِي يَسُرُّ النَّاظِرِينَ بِبَهْجَتِهِ، فَلَا يَلْبَثُ أَنْ تَنْزِلَ بِهِ جَائِحَةٌ تَحُسُّهُ وَتَسْتَأْصِلُهُ قُبَيْلَ بُدُوِ صَلَاحِهِ وَالِانْتِفَاعِ بِهِ، قَالَ عَزَّ وجل: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ} أَيْ لَا شَبَهَ لَهَا فِي صُورَتِهَا وَمَآلِهَا إِلَّا مَاءُ الْمَطَرِ فِي جُمْلَةِ حَالِهِ الْآتِيَةِ {فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ} أَيْ فَأَنْبَتَتِ الْأَرْضُ أَزْوَاجًا شَتَّى مِنَ النَّبَاتِ تَشَابَكَتْ بِسَبَبِهِ وَاخْتَلَطَ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ فِي تَجَاوُرِهَا وَتَقَارُبِهَا، عَلَى كَثْرَتِهَا وَاخْتِلَافِ أَنْوَاعِهَا {مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ} بَيَانٌ لِأَزْوَاجِ النَّبَاتِ وَكَوْنِهَا شَتَّى كَافِيَةً لِلنَّاسِ فِي أَقْوَاتِهِمْ وَمَرَاعِي أَنْعَامِهِمْ، وَكُلِّ مَرَامِي آمَالِهِمْ {حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ} أَيْ حَتَّى كَانَتِ الْأَرْضُ بِهَا فِي خُضْرَةِ زُرُوعِهَا السُّنْدُسِيَّةِ، وَأَلْوَانِ أَزْهَارِهَا الرَّبِيعِيَّةِ، كَالْعَرُوسِ إِذَا أَخَذَتْ حُلِيَّهَا مِنَ الذَّهَبِ وَالْجَوَاهِرِ، وَحُلَلَهَا مِنَ الْحَرِيرِ الْمُلَوَّنِ بِالْأَلْوَانِ الْمُخْتَلِفَةِ ذَاتِ الْبَهْجَةِ، فَتَحَلَّتْ وَازَّيَّنَتْ بِهَا اسْتِعْدَادًا لِلِقَاءِ الزَّوْجِ- وَلَا تَغْفُلْ عَنْ حُسْنِ الِاسْتِعَارَةِ فِي أَخْذِ الْأَرْضِ زِينَتَهَا، حَتَّى كَانَ اسْتِكْمَالُ جَمَالِهَا، كَأَنَّهُ فِعْلُ عَاقِلٍ حَرِيصٍ عَلَى مُنْتَهَى الْإِبْدَاعِ وَالْإِتْقَانِ فِيهَا {صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} (27: 88) {وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا} مُتَمَكِّنُونَ مِنَ التَّمَتُّعِ بِثَمَرَاتِهَا، وَادِّخَارِ غَلَّاتِهَا، {أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا} أَيْ نَزَلَ بِهَا فِي هَذَا الْحَالِ أَمْرُنَا الْمُقَدَّرُ لِإِهْلَاكِهَا؛ بِجَائِحَةٍ سَمَاوِيَّةٍ لَيْلًا وَهُمْ نَائِمُونَ، أَوْ نَهَارًا وَهُمْ غَافِلُونَ {فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا} أَيْ كَالْأَرْضِ الْمَحْصُودَةِ الَّتِي قُطِعَتْ وَاسْتُؤْصِلَ زَرْعُهَا، فَالْحَصِيدُ يُشَبَّهُ بِهِ الْهَالِكُ مِنَ الْأَحْيَاءِ، كَمَا قَالَ فِي أَهْلِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمَةِ الْمُهْلَكَةِ: {جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ} (21: 15) وَيُشْبِهُ هَذَا الْهَلَاكُ فِي نُزُولِهِ فِي وَقْتٍ لَا يَتَوَقَّعُهُ فِيهِ أَهْلُهُ قَوْلُهُ: {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ أَوْ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضَحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ} (7: 97 و98) {كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ} أَيْ هَلَكَتْ فَجْأَةً فَلَمْ يَبْقَ مِنْ زُرُوعِهَا شَيْءٌ، حَتَّى كَأَنَّهَا لَمْ تُنْبِتْ وَلَمْ تَمْكُثْ قَائِمَةً نَضِرَةً بِالْأَمْسِ، يُقَالُ: غَنِيَ فِي الْمَكَانِ إِذَا أَقَامَ به طَوِيلًا كَأَنَّهُ اسْتَغْنَى بِهِ عَنْ غَيْرِهِ، قَالَ تَعَالَى فِي الْأَقْوَامِ الْهَالِكِينَ فِي أَرْضِهِمْ: {كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا} (7: 92) وَالْأَمْسُ: الْوَقْتُ الْمَاضِي. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي الْكَشَّافِ: وَالْأَمْسُ مَثَلٌ فِي الْوَقْتِ الْقَرِيبِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: كَأَنْ لَمْ تَغْنَ آنِفًا انْتَهَى. وَأَمَّا أَمْسُ غَيْرُ مُعَرَّفٍ فَهُوَ اسْمٌ لِلْيَوْمِ الَّذِي قَبْلَ يَوْمِكَ {كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} أَيْ كَهَذَا الْمَثَلِ فِي جَلَائِهِ وَتَمْثِيلِهِ لِحَقِيقَةِ حَالِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَغُرُورِ النَّاسِ فِيهَا وَسُرْعَةِ زَوَالِهَا، عِنْدَ تَعَلُّقِ الْآمَالِ بِنَوَالِهَا، نُفَصِّلُ الْآيَاتِ فِي حَقَائِقِ التَّوْحِيدِ، وَأُصُولِ التَّشْرِيعِ، وَأَمْثَالِ الْوَعْظِ وَالتَّهْذِيبِ، وَكُلِّ مَا فِيهِ صَلَاحُ النَّاسِ فِي عَقَائِدِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأَخْلَاقِهِمْ وَمَعَاشِهِمْ، وَاسْتِعْدَادِهِمْ لِمَعَادِهِمْ، لِقَوْمٍ يَسْتَعْمِلُونَ عُقُولَهُمْ وَأَفْكَارَهُمْ فِيهَا، وَيَزِنُونَ أَعْمَالَهُمْ بِمَوَازِينِهَا، فَيَتَبَيَّنُونَ رِبْحَهَا وَخُسْرَانَهَا.